فايزة الكعبي: وشعرتُ فجأةً بألمٍ حادٍ في صدرِي
واتاني الألم مرتين ثم استمر وتواصل، وأدركت حينها أنه يتحتم علىّ زيارة الطبيب لسؤاله عما أشعر به. وفي العيادة، أخبرني الطبيب بأنه مجرد تقلص عضلي، وأعطاني مسكن للآلام وانتهى الأمر.. ولكن وبعد بانتهاء علبة المسكن أثناء قضائي لعطلتي مع شقيقتي في اسطنبول عاودني الألم مرة أخرى، ولذا أخذت موعد لزيارة الطبيب. وأثناء الزيارة، وصفت له ألمي فإذا بملامح الطبيب تتغير موضحةً إنه أكثر من مجرد تقلص عضلي. أمر الطبيب ببعض الاختبارات للتأكد من شكوكه.
عندما ظهرت نتيجة الاختبارات، ذهبنا للطبيب مرة أخرى وعرفت أختي قبلي ……..بالأخبار السيئة، عرفت من وجهها.
هناك ورم ليفي سرطاني حول الرئة، وانتشر بين الإبطين والبطن.
صُدمت – وتوقف مخي عن العمل من هول المفاجأة…ولم أصدق. أنا مريضة سرطان!!!!! اعتدت سابقا أن أشارك في الفعاليات الخاصة بدعم مرضى السرطان واعتدت سماع قصصهم عن كيف صاروا مرضى سرطان؟ لكن كيف حدث هذا لي؟ ليس عندي أي عادات سيئة من شأنها أن تسبب لي مرض السرطان. أنا شخصية نشيطة وحريصة على الحركة باستمرار. لماذا حدث ذلك لي، هل هو اختبار من الله؟ هل هو ابتلاء……إلى أي متى سيستمر؟ هل هو عقاب …………..لماذا أُعاقب؟ ماذا فعلت؟ كيف سيكون مستقبلي…..هل لدي مستقبل من الأساس؟ استمرت سيل التساؤلات يشتعل في رأسي بين الفينة والأخرى. كنت أتمزق إربا لشعوري بأني مريضة سرطان. كان الألم مستمرا وكانت نتيجة الاختبارات مؤكدة لتشخيص الطبيب. لم أستطع استيعاب الأمر فظللت أفكر …….وأحدث نفسي هل أتحدث فعلا عن مرض السرطان. كيف أصبت بالسرطان!!! ولكني أصبت به أنا مريضة سرطان!
صارت رأسي متشابكة ككرة الخيط، تجول بها الأفكار يمنة ويسرة. كان لزاما عليّ أن أقرر مدى احتياجي للعلاج؟ وإذ كان لا بد من العلاج فمتى أبدأ؟ كما لا بد أن أقرر أين أحصل على العلاج؟ هل أرجع مرة أخرى إلى الدوحة وأتعالج بها أو استمر في بقاءي في دولة أجنبية؟ احتاج إلى اتخاذ كثير من القرارات ولا بد من اتخاذهم بسرعة. كان القرار صعبا لأني كنت مضطربة وفي حالة من عدم التصديق. وفي النهاية جمعت قواي وقررت أن أبدأ علاجي في الخارج مع نفس الطبيب الذي شخص حالتي.
وعندما اقترب موعد أول جلسة كيماوي، اتصل بي كثير من الأشخاص ليقولوا لي أني قوية وأنني سأنتصر على السرطان، وبعد فترة بدأت أصدقهم. بدأت تقبل أمر إصابتي بالسرطان. وعند هذه النقطة تبدت صدمتي نوعا من ..
تغير كل شئ قبل عيد الأضحى المبارك عندما بدأت علاج الكيماوي. صدم الكيماوي جسدي. كنت أشعر بالإعياء الشديد والميل إلى القيء، كنت قلقة وغضبانة، وشهيتي للطعام مفقودة مع إحساس بالقرف، كنت أتمنى لو أن أمي لم تأت لزيارتي وأن لا تجلب لي الطعام اللذيذ لأنه سينتهي وأنا ما زلت مريضة.. أحسست وكأني صرت إنسانا جديدا لا يعلم ما يريد ولا يعلم كيف يعبر عن نفسه، أحسست أنني أدور في وسط العاصفة؛ وحيدة مع شخص غريب ومهمتي الآن هي التعرف على هذا الغريب. وبينما أنا في وسط هذا الصراع العنيف سألت الله ليلة العيد أن يلهمني الصبر لتحمل كل هذه الآلام وأن انتصر على السرطان. سمع الله دعائي واستجاب لي.
وفي أول يوم من أيام العيد شعرت بأن حالتي أسوأ من ذي قبل. بدت أسرتي وكأنهم في مأتم. وجوههم عبوسة شاردة متهكمة. لا يضحكون؛ لا يبتسمون؛ لا يهنئون بعضهم البعض بالعيد. أضحى العيد عبئا على عائلتي فهو يذكرهم بأنشيء ما بداخلي يأكلني بينما العالم بالخارج يستمتع ويحتفل بالعيد.
وبعد أسبوع من أول جلسة كيماوي كان عيد ميلادي. وبينما يعيث الكيماوي في جسدي فسادا، أشعر بتغييرات طفيفة تطرأ على جسدي. كنت أشعر بألم كل خلية سرطانية تموت في جسدي وكنت منهكة للغاية. كان الألم شديدا وعنيفا بل قاسيا. وصلت إلى نقطة كان السؤال الملح فيها لماذا أفعل ذلك. لماذا أخضع لكل هذا العذاب؟ لماذا أتحمل كل هذا البؤس؟
كان السبب معلوما …وهو سيل الدموع المنزرف من عيون عائلتي ومحاولاتهم الدؤوبة للتخفيف من آلامي وإسعادي ففي يوم ميلادي استأجرت أخواتي يختا. وعلى ظهر اليخت اظهر أخواتي حبهم لي؛ أعددن عشاءا رائعا مجهزا بالهدايا والكعك وكتبن اسمي بالليزر على جسر البوسفور. كنت أحلق في السماء فوق القمر. تناسيت أحزاني وصرت سعيدة سعادةً جمةً، سعادةَ لا توصف. وفي نشوة البهجة فكرت “لو أني سأموت بعد غد………سأكون مرتاحة وسعيدة””. أعطاني ذلك اليوم جرعة قوية من السعادة ساعدتني على المقاومة والاستمرار.
عاملتني أسرتي بحب، بل بكل الحب. أظهروا لي مقدار حبهم لي من خلال أشياء بسيطة. مثل أن روائح المنظفات كانت تتعبني فيخبروني بأنه عليّ مغادرة الوقت حالما حان الوقت لاستخدام المنظفات. كنت أرى مدى قلقهم عليّ. كادت أختي لا تنام لأنها تستيقظ بين الفينة والأخرى لتسألني هل أنا بخير؟ توقفت أمي عن تناول الطعام لأني لا أستطيع أن آكل. كانت تطبخ لي الطعام يوميا رغم ما تجده من صعوبة للنهوض من الفراش والوقوف لإعداد الطعام بسبب مشكلات صحية في ساقيها. صرتأخاف على أسرتي لو توفيت أكثر من خوفي من الموت.
وعندما حان الوقت لرجوع أحد أخواتي إلى الدوحة لأولادها، كنت أشعر بأن قلبها يتمزق. كانت تترك جزء من قلبها معي بينما الجزء الآخر مع صغارها. وعند تناول للعشاء لآخر مرة قبل مغادرتها إلى الدوحة صرحت لها بأني لم أكتفي من البقاء معها. ما زلت في حاجة إليها. ما زال هناك الكثير الذي أود أن أقوله لك وأشاركه معك. أتمنى أن نكبر سويا. سأتحمل كل الآلام من أجلك، سأتحمل كل المصاعب والمشاق من أجلك. سأعود إليك يا أختاه. انزرفت الدموع من عيون الجميع بلا حساب. كنت أدرك إنني واحدة من المحظوظين. فلدى الكثير الذين يحببونني ويهتمون بي. فمن لم يكن معي بجسده، كان يتواصل معي الهاتف دون ضجر أو ملل لتفقدني والاطمئنان على أحوالي.
استغرق الأمر بعض الوقت حتى تقبلت المرض. فكنت في موقف لا يمكنني التخلص منه. ماذا كنت أفعل حيال ذلك. أخبرني الطبيب الحقيقة وقالي لي أن فرص البقاء على قيد الحياة عالية. غير أن بعض الأفراد لا يتحسنون ويؤدي بهم المرض إلى الوفاة. وقال: ” إنه ما زال مرض …….. تعاملي معه كأي مرض آخر واتركي لي الدواء وركزي على نفسك”. وهذا ما فعلته.
بعد ثالث جلسة كيماوي، تعلمت كيف أتعايش مع السرطان. أصبح لدي مقعد داخل الحمام لاستخدامه في حالة الإصابة بالدوار، وأكياس بلاستيكية لاستخدامها عند القيء. أدركت أن الليمون يصبني بالقرف فقررت الابتعاد عنه تماما.
في مرة من المرات جلبت لي أختي بعض البوظة في غرفتي بالمستشفى من وراء الممرضة لأنه لم يكن مسموحا لي بتناول البوظة. كما أُرسلت لي كتب من الدوحة للاطلاع عليها وقت الحاجة. سمحت لجسدي التكيف مع مرض السرطان والعلاج بالكيماوي.
ولكن وحتى مع دعم أسرتي المتواصل، انتابتني أحيانا لحظات ضعف؛ وخاصة عندما صرت وحيدة معزولة في غرفتي لمدة ستة جلسات كيماوي بدون أي صوت عدا آلات التنبيه التي تطلق أصواتها هنا وهناك. كنت محرومة من أي تفاعل مع البشر. افتقدت كثيرا الاختلاط بالناس وقضاء أوقات ممتعة معهم. ارتبطت الوحدة داخل غرفة العلاج بهذا المرض المتقلب وبما يحدثه الكيماوي مما دفعني إلى عدم القدرة على اتخاذ أبسط القرارات ولذلك سلمت أمري تماما لأسرتي التي أُحبها وأثق فيها. ففي لحظات الضعف، والشعور بالألم، كنت أفكر في الموت ولكن أختى لم تسمح لي التفكير فيه. قالت لي أنه عليّ أن أتحمل إن لم يكن لنفسي فلها، وهذا ما أغضبني…..لا أستطيع تحمل هذا العذاب. تركتني أختي لأفكاري بعدما انفجرت. فكرت فيما قالته لي وتذكرت ما قلته عندما بدأت العلاج. سأخضع للعلاج من أجلكم أولا،
إنهم فقط ست جلسات من علاج الكيماوي. بدا أن عدد الجلسات كبير جدا وأن الجلسة السادسة بعيدة جدا …..صعبة المنال. وبغض النظر عن ذلك كله……..خضعت للعلاج والتزمت به و أكملت أول برنامج من العلاج الكيماوي وصار وقت فحص الطبيب للوقوف على حالتي بعد الكيماوي وإلى أي مدى تأثر السرطان.
لم يكن لدي أي توقعات لنتائج الاختبارات. لم أكن متفائلة أو متشائمة. لم أكن أطمح لأي شئ حتى لا أشعر بخيبة الأمل وأردت أن لا أفكر بسلبية. فمهما كانت نتائج الاختبار سأتقبل الأمر. كنت في حالة من الهدوء والسكينة.
إذا أخبرني الطبيب بعدم استجابة السرطان للعلاج الكيماوي وعدم وجود حلول أخرى، سأغضب ولكني سأتقبل الموت. فالموت ليس نهاية.وبدأت أنظر للموضوع من منظور ديني “من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه”. أعطتني هذه الجملة مزيد من الراحة والطمأنينة وشجعتني على مواجهة الموت. لم تكن أسرتي تحب بالطبع أن تسمع أي شيء من ذلك، ولكن الموت حقيقة لا بد أن نعترف بها. فالموت علينا حق. إذا أخبرني الطبيب أنه لم يتبق لي في الحياة إلا القليل، فسأعود فورا إلى الدوحة وسأجمع كل أحبابي وأملا عيوني من رؤيتهم قبل أن أغادر هذا العالم وأذهب إلى عالم آخر. وإذا قال لي أن ساعتي قد اقتربت. سأظل في تركيا حتى يأتيني الموت.
وعلى عكس كافة السيناريوهات التي دارت في ذهني
قال الطبيب: فايزة، لدي أخبارُ سارةُ
سألته: ماذا؟
أجاب: أخبار سارة توقعت أن يقول إن جسدي استجاب للعلاج أو أي شيء مما يقوله الأطباء للمرضى حتى يثلجون صدورهم أو يخففون عنهم. ما قاله أعجزني عن الكلام وأوقف لساني.
“نتيجة الاختبار تظهر أن جسدك خالي من السرطان”.
وصفني الجميع بالبطلة لانتصاري على السرطان، ولكني لم أشعر بأنني بطلة. قد كان لدي بعض لحظات الضعف، لأنه لا يوجد من هو قوي في مواجهة المرض. نحن ضعفاء. عندما نشعر بألم الأسنان لا ننام طوال الليل. أنا أعرف ما هو الألم الذي يسببه مرض السرطان أو العلاج بالكيماوي. لقد قضيت سنة أتعالج من مرض السرطان ولا أعرف هل سأعود إلى سابق حياتي أم لا، ومتى؟ قد أكون أُصبت بالسرطان لأغير طريقتي في رؤية الأشياء، لأسمح لنفسي بأن أعرف أنى في حاجة أن أعيش حياة أفضل. ولكني الآن أعرف أنني قوية وهذا ما تعلمته من السرطان وما يجب أن أشكره عليه.
كانت حياتي تشبه العدسة المتسخة القذرة ولكن السرطان ساعدني على تنظيفها كما جعلي أرى العالم بصورة أوضح. توقفت عن التفاهات وتوقفت عما يغضبني لأن الحياة أكبر من تلك الأشياء البسيطة المزعجة. علمني السرطان أن أختار نفسي وأن أعشق محبيني أكثر من العمل؛ رب العمل قد يستبدلني ببساطة بينما محبيني لن يقبلوا بغيري. أدركت أن سقوط شعري ليس بالمشكلة العويصة مقارنة بفقدان حياتي، وأنه يتحتم على الحفاظ عليها، كما أن الشعر لن تتوقف عليه سعادتي بينما حياتي تعني سعادتي.
إنني ممتنة لانتمائي لمجتمع يتواصل فيه المغتربون بأبناء الوطن ويتفقدونهم بالسؤال والدعاء بل وينشئون مشروعات خيرية باسمهم لأنهم علموا فقط بمرضك. ومع ذلك أتمنى أن يتوقف الناس عن معاملة السرطان كمرض حقير، فنحن نوسم البشر بأنهم مرضى سرطان علما بأن المتعافين لم يختاروا إصابتهم بمرض السرطان أو الشفاء منه.
ولمن تم تشخيصهم لتوهم بمرض السرطان أحب أن أقول “انا انتصرت، وانت كمان ستنتصر”. فليس هناك داء لم يخلق له الله دواء. فعلاج الأمراض المستعصية موجود ولكن الانسان لم يكتشفه بعد. لا تستمع إلا إلى طبيبك فهو الوحيد القادر على تقديم النصيحة الطبية وقم بالتركيز على نفسك.
بعد مرور عام سعدت أيما سعادة لتوقفي عن العلاج. وما زال هناك الكثير من الأيام السعيدة في انتظاري، هناك أشياء كثيرة أحب أن نحياها. سعيدة لمروري بتجربة السرطان وممتنة لها جدا. ولو عادت بي الأيام لن أعود لما كنت عليه من قبل لأني الآن أرى الحياة أكثر وضوحا.
لا أتمنى أن يمر أي شخص بما مررت به ولكن إذا أصيبأحدكم بالسرطان، فاستقبلوه استقبال الأبطال. سننتصر معا وسنهزمه معا. فنحن جزء من مجتمع داعم يريد بقاءك لان بقاءك يعني بقاء من حولك.
أردت أن أروي لكم قصتي لأعلمكم أنني هنا من أجلكم..سأقدم لكم كل ما تملكه يداي وتستطيعه روحي، ولن أتواني أبدا عن ذلك.